الثقافة والمجتمع

التنوع الثقافي في العراق: الاحتفاء بالنسيج الغني للتقاليد العرقية

Fatimah Oleiwi
المؤلف: فاطمة عليوي
Al Rasheed Street

لطالما كان العراق محط أنظار العالم لأسباب سياسية واجتماعية، ولكن هل تعلمون أن العراق بلد ذو نسيج غني ومعقد من التنوع الثقافي؟ إذ يقع في مفترق طرق التاريخ، وكان موطناً للعديد من الحضارات، كل منها خلف بصمة لا تُنسى على مشهده الثقافي. فضلاً عن أن البلاد موطن لأكثر من 18 مجموعة عرقية متميزة، بحسب  أحدث البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء في العراق. 

وبعيدًا عن عناوين الصحف الرئيسية والاضطرابات التي كثيراً ما تحدد صورة العراق، فهناك عالم عامر بالكنوز الخفية. إنه عالم تزدهر فيه التقاليد الفريدة.

لنستكشف معاً الكنوز الخفية داخل ثقافة العراق والعالم النابض بالحياة للتنوع الثقافي في العراق، ونتعمق في التقاليد العرقية المختلفة التي تجعله فريداً.

 

جذور تمتد إلى حضارة بلاد الرافدين والتنوع الحديث

تمتد جذور العراق وتاريخه إلى حضارة بلاد الرافدين العريقة، والتي تُعرف في كثير من الأحيان بـ "مهد الحضارة". فقد ترك السومريون والأكديون والبابليون والآشوريون جميعاً بصماتهم التي لا تمحى على هذه الأرض. وعلى الرغم من جذورها القديمة، يضم العراق أيضاً مجموعة  متنوعة من المجموعات العرقية المعاصرة، بما في ذلك العرب والأكراد والتركمان والآشوريين والإيزيديين، وغيرهم. يُمثل هذا التنوع الحالي دليلاً على تاريخ البلاد الطويل في الترحيب بمختلف الثقافات والخلفيات والأعراق واستيعابها.

ساهمت كل من هذه الحضارات القديمة في تكوين النسيج الغني والتنوع الثقافي للعراق المعاصر. بالإضافة إلى الروائع المعمارية التي خلفتها هذه الحضارات العريقة، مثل صروح الزقورات التاريخية الشاهقة وقوانين حمورابي البابلية، التي لا تزال تفتن العالم، لكل مدينة في العراق ثقافتها وقصصها الخاصة، بدءًا من بغداد وقلبها النابض في شارع المتنبي التاريخي، ثمة مجتمع نابض بالحياة ومتنوع من بائعي الكتب الذين ازدهروا على مدى أجيال. يُعرف هذا الصرح الثقافي باسم سوق الكتاب في شارع الرشيد، وهو شهادة على الحب الدائم للأدب الذي يتجاوز الحدود العرقية والدينية.

أما في مدينة البصرة جنوب العراق، توجد مؤسسة بارزة تُعرف باسم "دار الثقافة العراقية". تأسس هذا المركز الثقافي عام 2010 على يد مجموعة من الأشخاص المتحمسين من خلفيات عرقية متنوعة، وهو مكرس للحفاظ على التراث الغني للمجتمعات العراقية المتنوعة وتعزيزه.

 

وفي الشمال، وتحديداً في قلب مدينة أربيل القديمة، عاصمة إقليم كردستان في العراق، تقع حديقة شاندر "بارك شاندر"، وهي شاهد على الصمود والتآلف بين مختلف المجموعات العرقية في المنطقة. تُعد هذه الحديقة، التي تحمل اسم "كهف شاندر" القريب، الذي يشتهر ببقايا الإنسان البدائي "النياندرتال"، رمزاً للوحدة والتعاون بين الأكراد والعرب والتركمان والآشوريين، والمجتمعات العرقية الأخرى.

تُعد هذه الأماكن وهؤلاء الأشخاص دليلاً حياً على النسيج الغني للثقافات التي يحتضنها العراق داخل حدوده.

 

إرث التأثير العربي

في القرن السابع، جلب الفتح العربي للعراق اللغة العربية والثقافة والتقاليد الإسلامية إلى المنطقة. ونتيجة لذلك، يشكل العرب غالبية سكان العراق، حيث يمثلون حوالي 75-80% من سكان البلاد، وفقاً لكتاب حقائق العالم الصادر عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه). واضطلع العرب بدور هام في تشكيل ثقافة البلاد.

تشكل الثقافة العربية العراقية مزيجاً مفعماً بالحيوية من العناصر التقليدية والحديثة. ولا يزال تأثير الثقافة العربية واضحاً في الحياة اليومية للعراقيين، من اللغة العربية التي يتحدث بها الأغلبية إلى العقيدة الإسلامية التي يعتنقها الكثيرون. ومن ناحية أخرى، يُحتفى بالتقاليد العربية، بما في ذلك الطعام والموسيقى والأدب، على نطاق واسع.

 

استكشاف النكهات الغنية للمطبخ العراقي التقليدي 

يُعد المطبخ العراقي شاهداً على التأثيرات الثقافية المتنوعة التي تميز البلاد، ويقدم مزيجاً من النكهات من مختلف الحضارات التي ازدهرت في المنطقة. تشمل الأطباق الشهيرة مثل البرياني، والدولمة، والتشريب، والفلافل، والمسكوف، ومجموعة متنوعة من الأطباق التي يُعد الأرز المكون الرئيسي بها. أما الخبز، خاصة خبز الصمون والخبز العادي، فهو أحد العناصر الأساسية في النظام الغذائي العراقي. وفي حين تضفي مجموعة متنوعة من التوابل والأعشاب وتقنيات الطهي المستخدمة في المطبخ العراقي على المأكولات العراقية سحراً خاصاً، فإنها تجعل منها مغامرة حقيقية عند تذوق هذه الأطباق.

ونظراً إلى أن الأمر لا يقتصر على الطعام فقط، فهناك شيء يعشقه العراقيون ولا يمكن إكمال الوجبة بدونه، وهو الشاي العراقي "حُب الشاي". يشترك العراقيون في حب عميق للشاي، وهو قاسم مشترك يربط بينهم عبر خلفياتهم العرقية المتنوعة. سواء كان الشاي القوي والداكن الذي يقدم في أكواب صغيرة أم شاي الأعشاب مع النعناع والهيل، فإن الشاي يُمثل رمزاً للضيافة والتفاعل الاجتماعي في العراق.

من المهم ملاحظة أن الاختلافات الإقليمية موجودة داخل المطبخ العراقي، وتتأثر بالموقع الجغرافي، والتنوع العرقي في البلاد. على سبيل المثال، تساهم المأكولات الكردية والعربية والتركمانية جميعها في نسيج المطبخ العراقي العام. وعلى الرغم من التحديات التي واجهت البلاد في السنوات الأخيرة، لا يزال المطبخ العراقي التقليدي جزءاً أساسياً من تراثها الثقافي وهويتها.

 

التناغم في التنوع: صمود العراق وتعايشه

على الرغم من ثراء التنوع الثقافي والمجموعة الواسعة من الجماعات العرقية، بما في ذلك العرب والأكراد والتركمان والآشوريين والكلدانيين والإيزيديين والشبك والمندائيين والأرمن، واجهت البلاد تحديات كبيرة في العقود الأخيرة، بما في ذلك الصراع وعدم الاستقرار. وقد أدت هذه التحديات في بعض الأحيان إلى توتر العلاقات بين مختلف المجموعات العرقية والدينية.

ومع ذلك، من المهم أن ندرك أن التنوع الثقافي في العراق يشكل أيضاً مصدراً للصمود. فغالباً ما تتلاحم وتتكاتف المجتمعات المحلية لحماية التقاليد والحفاظ عليها في مواجهة الشدائد. على سبيل المثال، خلال احتلال تنظيم داعش للموصل وسهول نينوى، تعاونت مجتمعات متنوعة، بما في ذلك المسيحيين والمسلمين، لحماية المواقع التاريخية والمخطوطات.

social cohesion

وفي هذا السياق، اكتسبت زيارة البابا فرنسيس إلى العراق عام 2021 أهمية كبيرة. فقد كانت رمزاً للأمل ودعوة إلى التعايش السلمي بين الطوائف العراقية المتنوعة. وخلال زيارته، التقى البابا فرنسيس بقادة دينيين من مختلف الطوائف، مؤكداً على أهمية الحوار والتعاون بين الأديان.

ولا يمكننا أن نغض الطرف عن حقيقة أننا نعيش في عالم يبدو فيه التجانس الثقافي أمراً لا مفر منه أحياناً. ويمثل العراق منارة للأمل؛ إذ يثبت التنوع العرقي المتجذر فيه والتقاليد العريقة المتأصلة في حضارته أن التعايش ممكن، بل ويمكن أن يكون مصدراً للقوة والصمود.

في الختام، من المهم أن ندرك أن التنوع الثقافي في العراق هو شهادة على تاريخه الغني وصمود أكثر من 43 مليون عراقي. إذ يخلق مزيج التقاليد القديمة، المستمدة من حضارات بلاد الرافدين والعربية والكردية والتركمانية والكلدانية والآشورية، نسيجاً فريداً يُحدد هوية البلاد. وعلى الرغم من التحديات، ما زال العراقيون يحتفون بتراثهم المتنوع، مما يعزز الوحدة والتفاهم بين مختلف المجموعات العرقية. وتقبل هذا التنوع الثقافي ليس مصدر فخر للعراقيين فحسب، بل هو أيضاً رمز للأمل في مستقبل أكثر إشراقاً وتناغماً.

 

هذا المحتوى مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي  CC BY-NC 4.0.

 

فبراير 15, 2024

Other Articles