التاريخ والحضارة

البصرة.. نبض الثقافة في عمق الجنوب

Achref Chibani
"أزقتها الضيقة تحكي حكايات الماضي، وأبنيتها العتيقة تشهد على عظمة الحضارات التي تعاقبت عليها."
Basra

تقع البصرة على ضفاف شط العرب، حيث يتلاقى نهرا دجلة والفرات ليشكلا هذا النهر العظيم الذي يصل إلى الخليج العربي. وتعتبر البصرة بوصفها مهداً للحضارات ومنبعاً للعلم والأدب، جوهرة العراق التي تتألق بألوانها الثقافية المتعددة ففي أحضانها نشأ العديد من أعلام الفكر والأدب، وترعرعت ثقافة شعبية غنية ومتنوعة.

 البصرة مدينة تحمل روح التاريخ وعبقه، فقد كانت جزءاً من الحضارة السومرية العريقة، والتي تضم مدنا مثل لاغاش وآور التي تبعد عنها سبعين كيلومتراً شمال غرب. موقع البصرة الاستراتيجي على ضفاف شط العرب أين تعانق  أطرافها سواحل الخليج العربي من جهة مدينة الفاو جعلها مركزاً مهماً للتجارة والعبور عبر العصور. 

تاريخ البصرة يمتد إلى عصور ما قبل الإسلام حيث كانت جزءاً من الحضارات السومرية والبابلية والآشورية، قبل أن تتعاقب  عليها العديد من القوى والحضارات في العصر الإسلامي.

 كان للبصرة دور مهم في الفتوحات الإسلامية وأصبحت مركزاً رئيسياً للتجارة والتبادل الثقافي بين الشرق والغرب.

أسعى من خلال  هذا المقال إلى تسليط الضوء على هذا الإرث الثقافي الغني وكيف تعمل البصرة جاهدة للحفاظ عليه وتطويره في ظل التحديات التي تواجهها.

البصرة ليست مجرد مدينة تاريخية فهي كذلك موطن للأساطير والحكايات على غرارأسطورة السندباد البحري الذي يُعتقد أنّه انطلق في رحلاته العجيبة من هذه المدينة، مما جعلها جزءاً من حكايات ألف ليلة وليلة ذائعة الصيت. كماتُشير الأساطير السومرية إلى أن منطقة الأهوار العظيمة في البصرة قد تكون موقع جنات عدن المذكورة في العهد القديم حيث تشكلت هذه الأهوار نتيجة فيضان نهريّ دجلة والفرات في عام 628 ميلادية. 

الأهوار بحد ذاتها تعدّ ثروة بيئية واقتصادية، حيث توفر موطناً للكثير من الطيور والأسماك والمواد الزراعية مثل الرز وقصب السكر  التي يقتات منها  سكان الأهوار الذين يعيشون في جزر صغيرة، ويستخدمون زوارق تسمى المشاحيف للتنقل مما يعكس نمط حياة فريد ومستدام. بالإضافة الى ذلك، تشتهر البصرة بنخيلها الباسقة وتمورها الشهيّة التي تعتبر من أجود الأنواع في العالم حيث تمتد بساتين النخيل على ضفاف الأنهار، مما يضفي جمالاً وسحراً خاصاً على المدينة.

وتأسست البصرة في عهد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب عام 14 هجرية لتصبح واحدة من أبرز مدن العالم الإسلامي حيث ازدهرت بالعلم والثقافة والفكر.

وخلال الفترة العباسية، أصبحت البصرة مركزاً للعلم والفكر الإسلامي حيث نشأت فيها العديد من المدارس والمكتبات، وأُنجزت فيها الكثير من الأعمال الأدبية والعلمية. اشتهرت البصرة أيضاً بأنها مسقط رأس العديد من العلماء والمفكرين مثل الحسن البصري والجاحظ ولطالما كانت البصرة قبلة العلماء والأدباء، ففي أزقتها انتظمت  حلقات علمية ساهمت في تطور اللغة العربية وآدابها خصوصا مع بروزأسماء لامعة مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي، واضع علم العروض والقافية، وصولاً إلى الشعراء المعاصرين، والذين لعبوا دورا مهمّا في إثراء الساحة الثقافية العربية.

أما في العصر الحديث، فقد شهدت البصرة تطورات وتحولات هامة، بدءاً من الاحتلال البريطاني في أوائل القرن العشرين مروراً بفترات الاستقلال والازدهار، وانتهاء بالتحديات التي واجهتها خلال الحروب والصراعات التي ميّزت النصف الثاني للقرن العشرين والعقدين الأولين من هذا القرن. و تعد البصرة اليوم مركزاً اقتصادياً وثقافياً مهماً في العراق، حيث تُعتبر العاصمة الاقتصادية للبلاد بفضل موقعها الجغرافي المميز ومواردها الطبيعية الغنية.

و ما زالت البصرة تحتفظ بالروح الإبداعية، وتشجع على الإنتاج الثقافي والفني ففي يومنا هذا يشهد شارع الفراهيدي للثقافة والكتاب في البصرة حركة ثقافية نشطة، حيث يلتقي القراء والكتاب في أجواء محفزة على القراءة والإبداع، هذه المبادرة الشبابية الطموحة والتي وجدت دعماً متزايداً من الحكومة والمجتمع المدني أصبحت رمزاً للنهضة الثقافية في المدينة.

كما تعمل البصرة على إعادة تأهيل مواقعها التراثية، مثل البصرة القديمة (الشناشيل)، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة ( اليونسكو) وهذه الجهود تساهم في الحفاظ على التراث المادي للمدينة وإعادة الحياة إلى هذه المواقع التي تحمل في طياتها تاريخاً عريقاً.

رغم كل هذه الإنجازات، تواجه البصرة تحديات كبيرة، منها التغيرات المناخية والحروب والصراعات. ومع ذلك، فإن أهل البصرة يواصلون جهودهم للحفاظ على تراثهم الثقافي، وتطويره ليناسب متطلبات العصر.

و تبقى هذه المدينة، بجمالها الطبيعي وثرائها الثقافي، جوهرة العراق التي تستحق الاهتمام والدعم. إن الحفاظ على هذا الإرث هو مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجميع، ففي حماية التراث الثقافي يكمن ضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

في الختام، البصرة بحق هي مدينة التنوع الثقافي والحضاري مدينة مفتوحة على العالم منذ الأزل، تستمد قوتها وجمالها من تنوعها وثراء تاريخها الطويل. إنها مدينة تتنفس الحضارة والتاريخ، وتظل على مر العصور محط أنظار الباحثين والعلماء والسياح من كل أنحاء العالم.

 

المؤلفة : زهراء غازي  (جمعية الفردوس العراقيّة)

هذا المحتوى مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي  CC BY-NC 4.0.

آب/أغسطس 12, 2024

Other Articles