الحصار الاقتصادي على العراق (١٩٩٠ - ٢٠٠٣)
في غضون ستة أسابيع، دمر القصف الجوي الذي شنته قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة ــ المعروف باسم عملية عاصفة الصحراء ــ في حرب الخليج الثانية المزيد من البنية الأساسية الاقتصادية للعراق في مختلف أنحاء البلاد مقارنة بما دمرته ثماني سنوات من الحرب مع إيران. وكان تأثير الحرب نفسها على السكان هائلاً، وتفاقم بسبب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 687 (الذي صدر في 3 أبريل/نيسان 1991) والذي أنهى رسمياً حرب الخليج الثانية. وكان جزء من القرار أن يعترف العراق رسمياً بالدولة المستقلة الكويتية، وأن يلتزم بدفع تعويضات الحرب وفتح جميع المواقع في العراق أمام عمليات التفتيش من جانب فرق الأمم المتحدة التي تبحث عن أدلة على برنامج العراق المشتبه به للأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية. وبدأت اللجنة الخاصة للأمم المتحدة (أونسكوم) عملها في مايو/أيار 1991. وبدلاً من 45 يوماً، أمضت اللجنة سنوات في العمل في العراق بسبب رفض السلطات العراقية منحها حق الوصول. ولقد حدثت نقطة تحول في صيف عام 1995، عندما فر الجنرال حسين كامل، صهر صدام والقوة الرئيسية في إدارة أسلحة الدمار الشامل، إلى الأردن وقدم رؤى حول برامج أسلحة صدام. ونتيجة لهذا، اضطرت السلطات العراقية إلى توفير إمكانية وصول أفضل.
وقد تم تدمير الأسلحة والمرافق المرتبطة بها بشكل رئيسي من قبل العراق، تحت إشراف لجنة الأمم المتحدة الخاصة. وقد علق صدام كل التعاون مع لجنة الأمم المتحدة الخاصة في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1998. ورغم أنه تراجع عن موقفه بعد فترة وجيزة، حتى لا يخاطر بضربة عسكرية أخرى، فقد انسحبت لجنة الأمم المتحدة الخاصة في النهاية وبشكل رسمي من العراق في 15 ديسمبر/كانون الأول 1998. وفي اليوم التالي، تعرض العراق لحملة قصف استمرت أربعة أيام على قوات الجيش ومرافق الأسلحة المفترضة. وتُعرف هذه العملية العسكرية الأميركية والبريطانية على نطاق واسع باسم عملية ثعلب الصحراء. وفي عام 2004، خلص تقرير دولفر إلى أن قدرة العراق على إنتاج أسلحة الدمار الشامل "دمرت بشكل أساسي في عام 1991 [...]."
لقد ارتبط برنامج أسلحة الدمار الشامل بموجب القرار 687 بالعقوبات القائمة بالفعل والتي اقترحها القرار 661 في أغسطس/آب 1990، والتي نصت على أن العقوبات سوف تظل سارية المفعول إلى أن يفي العراق بشروط القرار 687. وبعبارة اخرى، فرض مجلس الأمن حظراً شاملاً على العراق. وقد أدى تأثير سياسة صدام والعقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة إلى التضخم المفرط والفقر وسوء التغذية. ولكن هذا لم يكن له تأثير يذكر على أولويات النظام حتى وصل الاقتصاد العراقي إلى أدنى مستوياته في نهاية عام 1995. وهذا أجبر الحكومة العراقية في عام 1996 على الموافقة على قرار مجلس الأمن رقم 986 بشأن برنامج النفط مقابل الغذاء. وبموجب هذا القرار كان من حق جميع المقيمين العراقيين الحصول على سلة النفط مقابل الغذاء الشهرية التي تحتوي على الغذاء والإمدادات الطبية الأساسية، وقد قُدِّر أن 60% من السكان كانوا يعتمدون على هذا البرنامج بشكل كامل. وكان للبرنامج آثار جانبية غير مرغوب فيها، مثل العائدات غير المشروعة للنخبة السياسية العراقية، وهذا بدوره قوض فعالية برنامج النفط مقابل الغذاء على مر السنين. كما وقع نظام التوزيع العام الشامل، الذي أُسس في عام 1990 استجابة لنقص الغذاء بعد العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة، فريسة لسوء الاستخدام. فعندما استقال دينيس هاليداي، رئيس برنامج الأمم المتحدة الإنساني في العراق، من منصبه في عام 1998، صرح قائلاً: "إنني أرفض الاستمرار في تلقي أوامر مجلس الأمن، وهو نفس مجلس الأمن الذي فرض عقوبات إبادة جماعية على الأبرياء في العراق. لم أكن أرغب في التواطؤ [...]". وفي وقت لاحق، تبين أن برنامج النفط مقابل الغذاء كان فضيحة. فوفقاً لمنظمة الشفافية الدولية، "[...] قام صدام بابتزاز الرشاوى والرسوم الإضافية من المشترين المختارين للنفط العراقي وبائعي السلع الإنسانية، وتشير التقديرات إلى أنه جمع ما بين 1.7 مليار دولار أميركي و4.7 مليار دولار أميركي، وفقاً لدراسات مختلفة [...]". وبالإضافة إلى ذلك، بدأت بعد عام 1998 عملية تهريب شاملة عبر الحدود الوطنية، الأمر الذي لم يفيد نظام صدام فحسب، بل مكنه أيضاً من تمويل جيشه والحفاظ على السيطرة على الرغم من العقوبات الدولية.
لقد كان الحصار الاقتصادي نقطة تحول في الظروف المعيشية، وبالتالي في العلاقات الاجتماعية في البلاد، وخاصة فيما يتعلق بدور المرأة. فقد غادر البلاد كل من استطاع، وخاصة الأسر من الطبقة المتوسطة التي كانت تشكل العمود الفقري للبلاد. وكان العراق معروفاً بأكاديمييه ومهندسيه المتعلمين تعليماً عالياً. وقد تضاءلت الطبقة المتوسطة المتعلمة، وفقد التعليم مكانته كشكل أساسي من أشكال رأس المال الاجتماعي. وبدلاً من ذلك، أصبح الوضع المالي والصلات بمراكز القوة - الحكومية أو القبلية أو الدينية - هي العوامل الأساسية التي تحدد المكانة الاجتماعية. ولم تعد الطبقة المتوسطة المتبقية تعتبر رأس المال الاجتماعي كما كانت في السابق. وحل محلها الوضع المالي والقرب من مراكز القوة، سواء كانت حكومية أو قبلية أو دينية. وبسبب الصعوبات الاقتصادية، بدأ العراقيون يتطلعون إلى أنسابهم القبلية للجوء إليها. وهذا يعني بدوره تبني العادات القبلية، التي تضمنت معايير محددة تحدد كيفية معاملة النساء، وكيفية التعامل مع تعليم المرأة وعملها، فضلاً عن الوضع العائلي. وعاد الناس إلى ممارسة العادات والتقاليد التي رفضوها في السابق. ولقد تشكلت هذه الحقيقة الأخيرة أيضاً بفعل "الحملة الإيمانية" الوطنية التي أعلن عنها صدام في يونيو/حزيران 1993. وكان تدشين الحملة الإيمانية بمثابة بداية لانتشار مطرد للدين الذي ترعاه الحكومة في العراق. وعلى النقيض من بعض التفسيرات الخاطئة التي تفيد بأن صدام قد غير مساره، فإن الحملة كانت تهدف إلى تسريع انتشار تفسير حزب البعث للدين في مختلف أنحاء المجتمع العراقي، وهو التفسير الذي لم يتغير منذ تولى صدام رئاسته.
هذا المحتوى مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي CC BY-NC 4.0.