المواطنة والمسؤولية المدنية

التربية المدنية والاستدامة

Achref Chibani
المؤلف: فلوريان وينزيل
لماذا يتجاوز مبدأ الاستدامة فكرة الحفاظ على الموارد الطبيعية؟ ما هو الرابط بين التربية المدنية والاستدامة؟ كيف يمكن للتربية المدنية أن تساعدنا في فهم الاستدامة بوصفها ذات ارتباط شامل ببناء الأمة؟
Civic education and sustainability in Iraq

تطور مصطلح الاستدامة

يشير مصطلح الاستدامة إلى استخدام الموارد بطريقة لا تعرضها للضرر ولا تؤدي لانحسارها مع مرور الوقت؛ بمعنى آخر أن تتم استدامتها. يعود أحد مصادر هذه الكلمة إلى علم الغابات، إذ تدل على ممارسة قطع الخشب بمقدار يعادل ما سيعاود النمو في المستقبل، لا أكثر. وفي الآونة الأخيرة توسع معنى هذا المصطلح وأصبح يغطي نهجاً متكاملاً يحدد الحاجات الضرورية لحياة البشر بالمجمل.

في عام 1987، عرفت الأمم المتحدة -والتي تمثل العراق أحد أعضائها المؤسسين منذ عام 1948- عرفت الاستدامة بأنها " تلبية حاجات الحاضر دون المساس بقدرات الأجيال المستقبلية على تلبية حاجاتها الخاصة." ومنذ ذلك الحين باتت الاستدامة تُصنف في ثلاثة محاور:

أ. البيئي: وهو الحفاظ على الطبيعة والأنظمة البيئية والموارد.

ب. الاقتصادي: وهو التنمية الفعالة في خدمة الصالح العام.

ج. الاجتماعي: وهو تلبية الاحتياجات البشرية بطريقة تعاونية وعادلة.

وقد نصت على هذا قمة الأرض الخاصة بالأمم المتحدة التي عُقدت في ريو دي جانيرو في عام 1992، والتي وُضعت فيها خطة عمل جدول أعمال القرن 21. وتمثلت إحدى أفكارها الرئيسية بأنه على كل حكومة محلية أن تتبنى جدول أعمال القرن 21 الخاص بها من أجل تحقيق التنمية المستدامة بحلول عام 2000. لم يصادق العراق على جدول أعمال القرن 21 حتى عام 2009، ولكن منذ ذلك الحين أصبح هذا جزءاً من أعمال التنمية الأخرى مع الأمم المتحدة المرتبطة بالاستدامة.

أطلق العراق مؤخراً المجموعة الاستشارية لسياسات البيئة وتغير المناخ، في جملة أمور أخرى، وهي منصة غير رسمية لرعاية الحوار، والتعاون، والتنسيق للحكومة، والمنظمات غير الحكومية، والأعمال التجارية، والهيئات العلمية. ويعد التنسيق أحد التحديات الرئيسية في العراق أمام إعداد أطر سياسية قوية في مجال الاستدامة البيئية والاقتصادية.

2. الاستدامة والتربية المدنية

في عام 2015 أطلقت الأمم المتحدة جدول أعمال 2030 للتنمية المستدامة، والذي ضم 17 هدفاً للتنمية المستدامة. وصادق العراق عليه في أوائل عام 2016. تُحدد أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر فهماً شاملاً للاستدامة في مجالات متعددة، وقد استُخدمت في أرجاء العالم لتوضيح مدى إلحاح التغيير. كما أن وجود رمز وشعارات مشتركة لكل هدف هي من الأهمية بمكان لنقلها إلى نطاق عام أوسع، ولإعطاء توجّه ملموس للمسؤولية في مختلف مجالات المجتمع. وتستخدم هذه الشعارات والرموز حتى الآن في إعلانات الشركات الكبرى، وفي المجتمع المدني، وفي التعليم الرسمي وغير الرسمي حول العالم.

يوضح الهدف 4 للتنمية المستدامة الارتباط بالتعليم وبالتربية المدنية على حد سواء: " ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع."

وبشكل أكثر دقة يتم التطرّق إلى المتعلمين والمعلمين كما يلي:

"(...) 4.7. ضمان أن يكتسب جميع المتعلّمين المعارف والمهارات اللازمة لدعم التنمية المستدامة، بما في ذلك جملة من السُبُل من بينها التعليم لتحقيق التنمية المستدامة واتّباع أساليب العيش المستدامة، وحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، والترويج لثقافة السلام واللاعنف والمواطنة العالمية، وتقدير التنوع الثقافي، وتقدير مساهمة الثقافة في التنمية المستدامة، بحلول عام 2030."

"(...) 4.10. الزيادة بنسبة كبيرة في عدد المعلمين المؤهلين، بما في ذلك من خلال التعاون الدولي لتدريب المعلمين في البلدان النامية، خاصة في البلدان الأقل نموًّا والدول الجزرية الصغيرة النامية، بحلول عام 2030."

وتعد مبادرة "تعزيز مشاركة وتمثيل المرأة العراقية في العمليات السياسية والانتخابية" التي أطلقتها الأمم المتحدة (العراق) من الأمثلة الحديثة على هذا. إذ إن هذه المسألة مرتبطة بشكل خاص بالعراق، حيث لا تزال فرص النساء أقل في تلبية احتياجاتهنّ البشرية. وبناء عليه تهدف هذه المبادرة، ضمن جملة من الأمور، إلى تقديم التدريب على العمليات السياسية للنساء اللواتي يعملن في السياسة، أو أولئك اللواتي يطمحن إلى الدخول في هذا المجال، بالإضافة إلى حث الأحزاب السياسية على دعم النساء في المناصب القيادية.

من خلال تصميم هذه الأهداف والأمثلة بالتركيز المباشر على التربية المدنية يمكننا أن نرى القيم المدنية مثل المسؤولية، والثقة، والمشاركة، والتفاعل، والمساواة. وبالتالي يمكن فهم التعليم الجيد بأنه مساهمة بالغة الأهمية في بناء الأمة، وجزءٌ لا يتجزأ منه. وبمعنى أدق يمكن اعتبار التربية المدنية على أنها مختبرٌ لبناء الأمة في غرفة الصف؛ لا بل إنها تقع في صميم ما يجب أن يكون الحال عليه في المدارس والمجتمع بكليّته. وهذا يتطلّب معلمين يتشابهون في تحملهم للمسؤولية، وفي تفاعلهم مع الطلاب بسوية واحدة. بمعنى آخر يمثل هؤلاء النموذج الصحيح الذي يوضح ما يمكن للاستدامة أن تكون عليه في التعليم.

تزداد أهمية هذا في أوقات الأزمات. نشرت الجمعية الدولية لتقييم التحصيل التربوي (IEA) في عام 2023 الدراسة الدولية الثالثة حول التربية المدنية والمواطنة (ICCS) على خلفية أزمات مثل الهجرة، والحروب، والأوبئة. ومن ضمن النتائج تبين أنه في هذه الأوقات الصعبة تعتمد التربية المدنية على الانخراط البيئي (وهو أمر مهم طبعاً)، وبشكل أقل على الانخراط (السياسي) التقليدي في المجتمع (بمعنى التصويت والمشاركة في المؤسسات). وأوصت بتعزيز التربية المدنية بوصفها نهج بناء أمة موجهاً نحو المستقبل، وخاصة في أوقات كهذه.

3. نتائج التربية المدنية في العراق:

تعمل الأمم المتحدة مع حكومة العراق وغيرها من الشركاء الوطنيين من خلال الإطار الاستراتيجي القُطري المشترك للأمم المتحدة للتعامل مع كل من تحديات التنمية وفرصها في العراق. يُستثمر أكثر من 47% من الدعم في السعي للقضاء على الفقر، وأكثر من 27% يذهب إلى بناء مؤسسات قوية للسلم والعدالة. وهذا يعكس الوضع الراهن في العراق؛ حيث لا تزال تلبية الاحتياجات البشرية الأساسية، ومحاربة الفساد على كل المستويات، أموراً بالغة الأهمية. ولكن بالنظر إلى الأهمية الإجمالية للتربية المدنية من أجل التنمية المستدامة، وبهذا المعنى من أجل بناء الأمة أيضاً، يمكن استنتاج وجود مجالات للتحسين من حقيقة أنه لا يستثمر سوى 0.9% فقط من الدعم في التعليم الجيد (هدف التنمية المستدامة 4).

من النقاش المطروح أعلاه يمكننا استخلاص بعض النتائج المتعلقة بالتربية المدنية والاستدامة في العراق. لا يدل سرد النقاط التالية على عدم وجودها في العراق، لكن يجب أخذها بعين الاعتبار وتعزيزها عند استخدام التربية المدنية للمساهمة في بناء شامل للأمة.

  • تعزيز التربية المدنية وخاصة في أوقات الأزمات: إذ يمكن لها، كما بينت الفقرات السابقة، أن تكون عاملاً لتحقيق الاستقرار لبناء علاقات مستدامة ومبنية على الثقة، وتعزيزها، والحفاظ عليها، من أجل بناء أمة على أساس الهوية المدنية.
  • اختيار قضايا راهنة مثل تغير المناخ، ولكن مع التركيز على قاعدة القيم الإجمالية للتربية المدنية بوصفها عناصر مهمة للاستدامة.
  • تطوير ودعم نُهُج التدريب المبنية على القيم، والمفاهيم التي تعزز التفاعل، والحوار، والتشاركية.
  • تدريب المعلمين كي تصبح نظرتهم إلى المدارس والصفوف على أنها مجتمعات للتفاعل، ومختبرات لبناء مستدام للأمة.
  • تصميم بيئات تعلم تتسم بكونها تفاعلية وموجهة نحو الحوار.
  • تعزيز المسؤولية الشخصية لدى المعلمين والمتعلمين بوصفها نموذجاً لبناء الأمة.
  • استخدام مشاريع العمل المدني (تعلم الخدمة) في المدارس، كونها ستنعكس غالباً على الأسرة، والأصدقاء، والمجتمع.
  • إدراج لقاءات بين مجموعات عرقية مختلفة في المجتمع المدني للوصول إلى بناء أمة متنوع وتكاملي.

 

هذا المحتوى مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي  CC BY-NC 4.0.

يونيو 4, 2024

Other Articles