التواصل السياسي ووسائل الإعلام

السرد والذاكرة والزخم: حركة تشرين العراقية

Achref Chibani
يرى العديد من المراقبين أن حركة تشرين الاحتجاجية في العراق قد أُرغمت على الصمت، لكني أعتقد أنها لا زالت تحافظ على زخم الحشد الشعبي بما يتجاوز المظاهرات في الشوارع.
wikipedia

المقدمة

يرى العديد من المراقبين أن حركة تشرين الاحتجاجية في العراق قد أُرغمت على الصمت، لكني أعتقد أنها لا زالت تحافظ على زخم الحشد الشعبي بما يتجاوز المظاهرات في الشوارع. والسبب وراء ذلك هو أن الحركة تضرب جذورها في سرد القصص، وبالتالي فإن ذكرياتها المستحضَرة عن الاحتجاجات الشعبية تواصل تحفيز الوعي الجمعي.

السرد بوصفه أداة

يساعد السرد على تحويل التجارب الحية إلى معنى من خلال روايةِ قصة معينة، إما عن طريق النقل الشفوي أو التمثيل الفعلي، أو كليهما، وتلقيها لدى المستمع أو الجمهور المستغرق فيها. وبالتالي يمثل سرد القصص عملية اجتماعية ثقافية أصيلة، ينخرط فيها الناس مع القصة المحكية. ووفقاً للزمان والمكان، تولّد هذه العملية أيضاً حوارات يتسنّى من خلالها للناس فهم أنفسهم. وهذه الذاتية هي محور سرد القصص، فالصوت دائم الحضور فيها. يعيش راوي القصة سرده المنعكس على ذاته، وفي الوقت نفسه يحفز في الجمهور المستغرق معه انعكاساتهم الخاصة. ومن خلال هذه العملية نبني هوياتنا، ونجد هدفنا، ونعيد تخيل الماضي. ثم إن سرد القصص هو وسيلة لنقل التجارب الشخصية والجمعية، والطموحات الجمعية، والعمل نحو تحقيقها. وحتى يكون نفعياً وبنّاءً ومحرضاً للتغيير، ينبغي أن يرتبط السرد ارتباطاً حميمياً بالجمهور، وأن يكون في متناولهم، وأن يضرب على أوتار مشاعرهم. في أثناء الحركات الاحتجاجية، وهي مرجل المشاعر المتأججة، يمثل سرد القصص أداة قوية لاستنهاض التكاتف، وتحدي الوضع الراهن.

. وفقاً لجيسيكا سينيهي، يتسم سرد القصص البنّاء بأنه: "شموليّ، يعزز القوة التعاونية والاعتراف المتبادل، ويخلق الفرص للانفتاح والحوار والتفكّر، فهو وسيلة لإحضار قضايا معينة إلى الوعي، ووسيلة للمقاومة."

بالمقابل فإن السرد الهدّام "يرتبط بالسلطة القسرية (السلطة 'على شيء ما' بدلاً من 'مع شيء ما')، وبالممارسات الإقصائية، وانعدام الاعتراف المتبادل، والخيانة، وقلة الوعي. فهو شكل من أشكال السرد التي تكرس الشك والإنكار." 

في ظل علاقات القوة المتباينة، يؤدي سرد القصص دوراً مزدوجاً عبر توليد العلاقات الإيجابية ضمن المجتمعات، وتعظيم الانشقاقات الاجتماعية بما يرسخ الخطابات الداعية للانقسام والعنف الممنهج. من خلال التمييز بين سرد القصص الهدّام وذلك البنّاء، يمكننا رسم معالم السرديات التي تحرض أعمال المقاومة وتسوغها. وفقاً لجيسيكا سينيهي، يتسم سرد القصص البنّاء بأنه: "شموليّ، يعزز القوة التعاونية والاعتراف المتبادل، ويخلق الفرص للانفتاح والحوار والتفكّر، فهو وسيلة لإحضار قضايا معينة إلى الوعي، ووسيلة للمقاومة." بالمقابل فإن السرد الهدّام "يرتبط بالسلطة القسرية (السلطة 'على شيء ما' بدلاً من 'مع شيء ما')، وبالممارسات الإقصائية، وانعدام الاعتراف المتبادل، والخيانة، وقلة الوعي. فهو شكل من أشكال السرد التي تكرس الشك والإنكار." يظهر السرد الهدّام عندما ينقسم الناس بين ما هو مثالي وما هو واقعي في محو القصص أو طمسها أو كليهما معاً. عند التمييز بين السرد الهدّام والسرد البنّاء، يمكن الاعتراف بالسلطة القسرية مقابل تقاسم السلطة، وبالتجريد من الإنسانية مقابل الاعتراف المتبادل، وبالخيانة وقلة الوعي مقابل الأمانة والوعي النقدي، وبالمقاومة والوكالة مقابل السلبية وفقدان الأمل. كانت حركة تشرين العراقية موقعاً لهذه الديناميات، حيث يستخدم المواطنون من أصحاب الوكالة سرد القصص أداةً للمقاومة.

 تشرين: القصة

في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2019، انبثقت حركة تشرين العراقية بوصفها ربيعاً للوعي الجمعي (أكتوبر باللغة العربية تعني تشرين). وكانت هذه أوسع احتجاجات في تاريخ العراق الحديث، حيث تظاهر العراقيون مطالبين بحقوقهم ووكالتهم الذاتية التي حرموا منها لعقود. ملأ آلاف المتظاهرين الساحات العامة، وقطعوا الطرقات في مدن عدة. تجمع هؤلاء في أمكان مثل ساحة التحرير في بغداد، وساحة الحبوبي في الناصرية حيث تحكي المعالم الأثرية قصص ماضي البلاد المتمرد في وجه الاستعمار. بمشاركة أكاديميين واتحاداتٍ ونقابات مهنية، روى المتظاهرون قصص الغضب الجمعي ضد نظام [WA1] فاسد غير ديمقراطي، يصبغ التمييز العرقي الطائفي بطابعٍ مؤسساتي تحت ستار التمثيل. وقد لجؤوا إلى الهتافات والشعر والموسيقا والفن لمشاركة قصص الاغتراب عن نظامٍ يقصيهم أيضاً عن بعضهم من خلال السياسات الطائفية والعنف. ومع إدراكهم أن الانتخابات غير العادلة تعيد تدوير الأطراف الفاعلة السياسية نفسها، رفع المحتجون مطالب تضمنت استقالة الحكومة، وإعادة صياغة قانون الانتخابات، وإلغاء العمل بالسياسات النخبوية الإقصائية، وحل البرلمان، وانتخابات مبكرة. وعن طريق حشد الناس من مختلف الأعمار والأطياف الاجتماعية الاقتصادية، منحت هذه الاحتجاجات العراقيين شعوراً جديداً بالوحدة والتضامن. شكل الطلاب الجامعيون الركيزة الأساسية للحركة، وكان للنساء مشاركة بارزة. ومن الشعارات الأكثر انتشاراً في العراق والشتاتنازل_آخذ_حقّي ونريد_وطن.

عمدت الأحزاب السياسية والجماعات شبه العسكرية، بعد أن شعرت بالتهديد، إلى تقسيم المتظاهرين من خلال دس عملاء مسلحين متخفين في الاحتجاجات لقتل عناصر من قوى الأمن أو من المتظاهرين، أو من كليهما، بهدف التحريض على العنف. وإلى جانب الرصاص الحي والأعيرة المطاطية، أطلقت القوات الحكومية عبوات الغاز المسيل للدموع مباشرة على المتظاهرين مما تسبب في مقتل العديد منهم. وقد انتشرت على الإنترنت مقاطع فيديو مروعة لمتظاهرين قتلى تظهر فيها قنابل الغاز المسيل للدموع مستقرة في جماجمهم. وخلال عدة أشهر تسببت قوات مكافحة الشغب والقناصون من الجماعات شبه العسكرية بمقتل أكثر من سبعمئة متظاهر، وجرح أكثر من عشرين ألفاً، مخلفين إعاقات دائمة لدى العشرات. واستمر ارتفاع الأرقام منذ ذلك الحين، وحتى شهر مارس/آذار 2021 أبلغ عن مقتل حوالي 1,035 متظاهر، وجرح 26,300 آخرين. وفي إقليم كردستان قتلت قوات الأمن الكردية ستة متظاهرين على الأقل واعتقلت 400 في ديسمبر/كانون الأول 2020. ولجأت الحكومة والجماعات شبه العسكرية إلى استخدام الاختفاء القسري كسلاح لإضعاف المتظاهرين والناشطين والصحفيين. ويقدر اختفاء 7.663 شخص في السنوات الثلاث الماضية. وإلى جانب العنف الجسدي انتشر العنف الرمزي وخطاب الكراهية. فقد شنت عناصر حكومية وغير حكومية حرباً نفسية تضمنت قنابل صوتية وضوئية لترهيب المتظاهرين، وحرباً على مواقع التواصل الاجتماعي مع اغتيال شخصيات معينة لإسكاتها. وضمن انخراطها بالسرد الهدام، أنشأت تلك الجماعات شبه العسكرية المدعومة من إيران قنوات على تطبيق تيليغرام، مع بنك للتغريدات كي تهاجم الناشطين والمتظاهرين، مصنفة إياهم على أنهم "مهرجون"، مع اتهامهم زوراً أنهم عملاء أجنبيون. استهدفت حملات خطاب الكراهية الشرسة والمستمرة الناشطين العراقيين على الإنترنت وخارجه، بهدف نزع الشرعية عنهم وعن الحركة، والتحريض على الاغتيالات. في تلك الأثناء طبقت الحكومة قطع الإنترنت لإسكات المتظاهرين الذين كانوا يزدادون قدرة وإصراراً. استُخدمت الإذاعات في الساحات العامة لتحذير المشاركين في الاعتصامات من التهديدات المسلحة، وعمل الناشطون في إقليم كردستان ممن لم يتضرروا من الانقطاع على سد الثغرات في المعلومات، والإبلاغ عن انتهاكات حقوق الأنسان. ورغم المحاولات المستمرة لإسكاتهم، بل وبسبب تلك المحاولات أيضاً، كان العراقيون يريدون من العالم أن يسمعهم ويراهم.

خلقت الجماعات شبه العسكرية ثقافة الخوف، وإلى جانب أثر جائحة كورونا، أُجبرت الحركة الاحتجاجية على التوقف، وادّعى عدد من المراقبين أن حركة تشرين قد سحقت. ولكن هذه الحركة بقيت حية في الوعي الجمعي للعراقيين ومن خلال أشكال أخرى.

 الذاكرة والحشد المستمر

مع إدراكهم للحد الذي يمكن أن تصل إليه الحكومة والجماعات شبه العسكرية في إثارة الخوف وإسكات روايات المتظاهرين، يعي الناشطون القوة الكامنة في سردهم للقصص. ومع استمرار العراقيين في بلدهم وفي الشتات بالحديث عبر الإنترنت عن ذكرياتهم من الأيام الأولى للاحتجاجات، تساعد هذه القصص في الحفاظ على زخم الحركة. أبقت قنوات التواصل الاجتماعي التي انبثقت عن الحركة على الاحتجاج حياً من خلال إحياء ذكرى التواريخ والأحداث والشخصيات المهمة. على وجه الخصوص يتم الاحتفاء بالمتظاهرين القتلى في التذكارات السنوية لمقتلهم، كما تخلَّد ذكرى المجازر التي ارتُكبت في جسر الزيتون في الناصرية، وفي ساحة السنك في بغداد، وفي ساحة الصدرين في النجف. وبالعودة إلى تلك القصص تستمر دعوات المساءلة مع ظهور عدد من الحملات. باستخدام وسوم وشعارات تطرح سؤال #من_قتلني؟ يطالب العراقيون بتحقيقات شفافة ومقاضاة المسؤولين عن الاغتيالات. #End_Impunity (أنهوا الإفلات من العقاب) هو وسم تطور إلى منظمة أطلقت حملات هادفة ضد المسؤولين الفاسدين، وأعضاء قوى الأمن المسؤولين عن العنف ضد المدنيين، بالإضافة إلى حملات رفع الوعي عبر الإنترنت التي تتحدى مشاريع القوانين غير العادلة مثل قانون مكافحة جرائم الإنترنت، وقانون حرية التجمع والاحتجاجات السلمية، والتعديلات الخطيرة المقترحة لقانون الأحوال الشخصية. يربط وسم أنقذوا_الأيزيديات_المختطفات القضية بحركة تشرين الأوسع، ويلقي باللوم على عاتق مؤسسات الدولة بسبب عدم الرد على محاولة الدولة الإسلامية ارتكاب إبادة جماعية، واستعباد جنسي للأيزيديات. يدرك الناشطون الرابط المباشر بين الذاكرة وسرد القصص والحراك من أجل الحفاظ على الحركة حيةً في الوعي العام. وهذا الأمر ملحوظ في انفجار المشهد الفني في العراقفاللوحات الجدارية في ساحة التحرير وأماكن أخرى تذكّر العامة، لا بالاحتجاجات السياسية الشعبية فحسب، بل أيضاً بإمكانية المزيد من الحشد الشعبي والتعبير الذاتي.

الخاتمة

يذكرنا سرد القصص في حركة تشرين العراقية بأن الذاكرة، في كونها نتاجاً للسرد وجزءاً منه، هي توسيع غير مباشر للسلطة. فهي تساعد على استعادة الهويات والتاريخ وحركات المقاومة. إذ ساعدت ملكية السردية في الاحتجاجات على الحفاظ على زخم حركة تشرين من خلال صيغ أخرى من الحشد الشعبي. ستفشل محاولات مؤسسات الدولة والجماعات شبه العسكرية في طمس الذاكرة الجمعية، إذ بات الشباب المقاومون والمصرون يؤمنون بقوة الضغط الشعبي، ويلجؤون إلى المواجهة للسخرية منها: إنت منو؟ 

 

المؤلف: ربى علي الحسني/المركز الدولي لدراسة التطرف (ICSR)

رابط المقال من المصدر: https://icsr.info/2022/09/27/storytelling-memory-and-momentum-iraqs-tishreen-movement/

هذا المحتوى مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي  CC BY-NC 4.0.

آب/أغسطس 1, 2024

Other Articles