"العدة" و "الداكوكات" .. تراث الموسيقى الشعبية النسائية المخفي في البصرة
تُعد الفرق الموسيقية النسائية في مدينة البصرة جزءًا لا يتجزأ من تراثها الثقافي الغني والمتعدد، حيث تمثل هذه الفرق تعبيرًا حيًا عن الهوية الموسيقية للمدينة، وتاريخها الاجتماعي العريق، وعلى مر التاريخ قامت النساء في مدينة البصرة بنقل التراث الموسيقي من جيل إلى جيل، محافظات على روح الأصالة والتقاليد الشعبية. ورغم التحديات التي واجهتها هذه الفرق عبر العقود، إلا أنها استمرت في أداء دورها الحيوي في المجتمع تارة بخفية وتارة اخرى بتواضع المادة الموسيقية المقدمة، وبهذا يؤكدن على مكانة الموسيقى النسائية في تشكيل الهوية الثقافية الشعبية للبصرة.
العدة هي تسمية تطلق على المجاميع الموسيقية النسائية، ومعناها الفرقة، وتكون امرأة مسؤولة عن العدة، مهمتها التنظيم والتنسيق بشكل عام وغالباً ما تكون هي المغنية الرئيسية، و هذه التسمية كانت شائعة في العقود السابقة، وخصوصاً في مدينة الزبير التي انتشرت بها هذه الفرق، حيث اشتهرت بفرق موسيقية نسائية و التي يتكون كافة اعضائها من النساء وكانت تحيي الافراح في بيوت الاكابر، وخاصه أفراح وجلسات النساء، حيث تعتبر هذه الفرق النسائية من الفلكلور البصري الاصيل، والفرق النسائية او العدة تعد شكل من اشكال الثقافة الموسيقية في مدينه البصرة، وايضاً كان يطلق على هذه الفرق ( بالداكوكات ) وهذه الفرق كانت تقوم بأحياء حفلات الزفاف لدى النساء وبالتحديد طقوس ( الجلوه )، والجلوة عبارة عن طقوس معروفة في مدينه الزبير والبصرة عموما، وهي طقوس روحاني يقام للعروسة في ليله زفافها للاحتفال بها والدعاء للعروسين بالتوفيق والحياه السعيدة، وهو ان يمسك اربعه من النساء قماش ابيض ويوضع فوق العروسة وتردد بعض الابيات بإيقاع السامري مثل ( امينه في امانها وحلوه في معانيها) بالإضافة الى بعض المدائح النبوية وذكر ال البيت المباركة الزواج.
وتميزت هذه الفرق بأدائها الاغاني العراقية التقليدية الشعبية، كما وان المطربات عاده ما يفتتحن الاغاني بموال، ولم تلحن هذه الفرق اغاني خاصة بها فهي اعتمدت الاغاني العراقية والعربية المتداولة، وتتكون هذه الفرق من مجموعة عازفات الطبلة وعازفة كاسور ومغنيه واحده اضافه الى ان عازفات الايقاع يرددن على شكل كورس لإضفاء الحماس بين المحتفلين.
كما يعتبر وجود الفرق النسائية في المدينة يدل على الذوق والمزاج في حب الطرب والانس، وبطبيعة الحال استخدمن النسوة هذه المهنة كوظيفه تأتي بالرزق والشهرة، ومن اشهر الفرق البصرية (فرقه زكيه الداكوكه وفرقه ام علي وفرقة ام غصون ) التي عرفت بتميزها في البصرة والخليج وغنت الاغاني التراثية العرقية بصوره مميزه ورائعة، كما وتجدر الاشارة الى ان النساء قد شاركن في جلسات واغاني الخشابة، على مستوى الغناء، وعلى مستوى التصفيق او الكورس كجزء من اصول غناء هذا الفن، كما كان هناك فرق نسائية تؤدي فن الخشابة مثل فرقة (فرقة الحاجة شيخة عودة المهنا - فرقة أم زايد - فرقة أم مريان - فرقة أم حسين - فرقة أم هديل - فرقة أم أمينة )، الا ان الامر المهم ذكره كانت هناك جلسات تعقد بشكل مشترك بين النساء والرجال في القرن الماضي، على عكس المقام العراقي في بغداد كانت مشاركة النساء فيه محضورة، "ويأتي ذلك من منطلق ان المقام هو رجولة وقوه وشموخ".
وسرعان ما اختفت هذا الجلسات بعد عام 2003 الى الان وبقيت جلسات الخشابة مقتصرة على الرجال فقط، ومن المهم ذكر ان هؤلاء النسوة "اغلبهن كانوا من اصول افريقية ( الافارقة السود العراقيين ) الذين تكاثروا في مدينة الزبير، وتاريخيا كان مجيئهم الى هذه المدينة من خلال الاضطهاد وتجارة الرق، وهذه الفنون تعد جزء من اسلوب معيشتهم وطقوسهم الدينية التي كانوا يمارسونها بمكان يدعى المكيد، والمكيد مكان لممارسة طقوس الافارقة السود العراقيين سابقاً، وغالبا ما كانت هذه الطقوس مرتبطة بشكل تام بالإيقاع، ولاحقاً بمرور وتطور الزمن مزجوها مع الفنون الموجودة في مدينة البصرة، وكانت تسمى هذه المجاميع النسائية في السابق بالعدة كما ذكرنا"، ويمكن القول ان هذه المسؤولية التي تقوم بها مسؤولة العدة هي نموذج مبسطة للقيادة الموسيقية.
اما الوضع الحالي أصبحت الفرق النسائية قليلة العدد، حيث تقوم بإحياء حفلات الأعراس، لكنها مقتصرة فقط على النساء ولا تشمل الحفلات المختلطة، مما انعكس على المواد الموسيقية المقدمة وجعلها مواد بسيطة متواضعة، ومما لا شك فيه ان هذا التراجع الملحوظ في عدد الفرق النسائية يعود إلى الظروف الأمنية والاجتماعية والسياسية، إذ لا يتجاوز عدد هذه الفرق اليوم عدد أصابع اليد.
المؤلف : حسين علي المنصوري (جمعية الفردوس العراقيّة)
هذا المحتوى مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي CC BY-NC 4.0.