الانتداب البريطاني والكفاح من أجل الاستقلال (١٩٢٠ - ١٩٣٢)
كانت الدولة المعروفة حالياً بالعراق جزءاً من الإمبراطورية العثمانية ونظام الحكم والولايات القائم فيها، واستمر الوضع على هذا النحو إلى غاية تقسيم الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914-1918). في أوروبا كانت هذه المنطقة تُعرف باسم بلاد الرافدين (ميسوبوتيميا)، ولكن الجغرافيين العرب كانوا قد أطلقوا عليها اسم العراق منذ القرن الثامن على الأقل. في تلك الفترة كانت المنطقة تتألف من ثلاث مقاطعات، أو ولايات وفقاً للتسمية العثمانية، وهي الموصل، وبغداد، والبصرة. وقد كانت القوات البريطانية تسيطر بالفعل على هذه المحافظات الثلاث التي كانت تحكم من المقر الإداري البريطاني في بغداد.
في عام 1920 في مؤتمر سان ريمو صادقت عصبة الأمم على الانتداب البريطاني للعراق. لكن المعارضات للحكم البريطاني كانت موجودة قبل هذا، وبعد فترة وجيزة من إعلان الانتداب اندلعت ثورة مسلحة على امتداد الأمة ضد الحكم البريطاني مع نهاية شهر حزيران/يونيو 1920. أما في لندن فقد أدت الثورة والتكلفة اللازمة لقمعها إلى تعظيم مساعي إيجاد صيغة حكم أكثر قبولاً في العراق؛ وعليه قررت بريطانيا أن تستمر "بالسيطرة بطريقة غير مباشرة". في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1920، أُعيد السير برسي كوكس إلى بغداد ليتولى منصب المندوب السامي الأول، الذي يمثل الأداة الرئيسية للسياسة البريطانية في البلاد، وأول عمل رسمي قام به كان تشكيل حكومة جديدة. فقد أقنع السيد عبد الرحمن الكيلاني بأن يوافق على أن يترأس مجلس الوزراء المعين الذي سيعمل تحت إشراف بريطاني، وصولاً إلى تشكيل حكومة جديدة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من نفس السنة. في آذار/مارس 1921، في مؤتمر الشرق الأوسط الذي عُقد في القاهرة بتنظيم من المكتب الاستعماري البريطاني، اتُّخذ قرار بتأسيس حكم ملكي في العراق، وبناء على ذلك عُين الأمير فيصل بن حسين وهو من أفراد الأسرة الهاشمية من الحجاز (حالياً المملكة العربية السعودية) ملكاً.
ومع مراسم تتويج الملك فيصل في 23 آب/أغسطس 1921، وُلدت دولة العراق الحديثة. طبق البريطانيون سياسة "فرّق، تَسُد"، محدثين انقسامات على المستويات العرقية والدينية، وفضلوا التعاون مع العرب السنة الذين كانوا يشكلون أقل من 20% من السكان. بالمقابل، كان أكثر من نصف سكان العراق الذين بلغ عددهم ثلاثة ملايين آنذاك من الشيعة، وحوالي 20% من الأكراد، و8% من الأقليات المسيحية واليهودية واليزيدية والصابئة والتركمانية. كان الملك فيصل الأول سياسياً فطِناً وواقعياً، وكان يتمتع ببعد النظر في إدراك حدوده وهشاشة موقعه، والنضال الضروري لإنشاء قاعدة لسلطته. ساهمت هذه الدرجة من الحساسية، بالإضافة إلى الجاذبية الشخصية القوية التي كان يتمتع بها، في خدمة مصالحه المتمثلة بتعزيز حكمه للعراق؛ ففي أثناء ولايته كان دائماً ما يأخذ بعين الاعتبار التركيبة العرقية والدينية للبلاد، حيث كان يتركز الأكراد في الشمال، و يشكل الشيعة غالبية السكان، مع وجود أقليات متنوعة.
لقد نصت المعاهدة البريطانية العراقية المؤرخة في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 1922 على السيادة البريطانية غير المباشرة على العراق على مدى العشرين عاماً التالية. ومع ذلك فقد أشارت المعاهدة أيضاً إلى الطبيعة المؤقتة للانتداب، حيث نصت على التزام بريطانيا بضمان قبول العراق في عصبة الأمم. في 10 تموز/يوليو 1924، صادق المجلس التأسيسي العراقي على القانون الأساسي، وهو الاسم الذي كان يطلق على الدستور آنذاك، الذي أعلن العراق دولة ملكية دستورية، وتلاه قانون الانتخابات بعد فترة قصيرة. جرت هذه الأحداث في خضم مخاوف كثيرة لدى السلطات العراقية. في حزيران/يونيو 1926 وضعت الاتفاقية الثلاثية البريطانية-التركية-العراقية حلاً لما كان يسمى مسألة الموصل، ونصت على أن مقاطعة الموصل ستكون جزءاً من العراق.
في عام 1929 تأسست أولى النقابات العمالية، وهي نقابة الحرفيين ونقابة السكك الحديدية. شهد العام نفسه انتحار رئيس مجلس الوزراء، عبد المحسن سعدون، نتيجة فشله في التفاوض مع البريطانيين للحصول على استقلال أكبر، وهذا ما دفع العامة إلى الطعن به على أنه مساند للبريطانيين. احتفي به بثالث تمثال في بغداد، الذي دُشِّن في تشرين الثاني/نوفمبر 1933.
في عام 1930 شغل نوري السعيد منصب رئيس مجلس الوزراء العراقي، وسرعان ما أجرى مفاوضات لصياغة اتفاقية بريطانية-عراقية جديدة، تم التوقيع عليها في حزيران/يونيو 1930. في 3 تشرين الأول/أكتوبر 1932، تمت الموافقة على انضمام العراق إلى عصبة الأمم، ما جعلها أول دولة عربية تنضم إلى هذه المنظمة الدولية. وهكذا انتهى الانتداب البريطاني، وحصلت المملكة العراقية على استقلالها الرسمي. ولكن رغم أن هذا كان يبدو استقلالاً، دخلت اتفاقية عام 1930 حيز التنفيذ وبهذا منحت بريطانيا العظمى عدة امتيازات لمدة 25 عاماً، من ضمنها الوجود العسكري. لكن أهم تلك الامتيازات كان السيطرة على قطاع النفط، الأمر الذي جعل استقلال العراق اسمياً نوعاً ما. ورغم الجدل الحاصل حول الاستقلال الحقيقي شهد ذلك العام إنشاء خدمات البريد باللغة العربية، إذ لم يكن مسموحاً في السابق إجراء المراسلات إلا باللغتين الإنجليزية أو الفرنسية في العراق، وكان موظفون بريطانيون يسيطرون على كل من صناديق الوارد والصادر..
هذا المحتوى مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي CC BY-NC 4.0.