الصحافة الاستقصائيّة بالعراق: الطموح في مواجهة العراقيل
خلال السنوات التي تلَت سقوط نظام صدّام حسين سنة 2003، شهدت الصّحافة بشكل عام حرّيةً أكبر بكثير مما كانت عليه في العقود السابقة، وعلى مدى سنوات، تحصّل عدد من الصّحفيين العراقيين على جوائز عربية ودوليّة مهمة، بما في ذلك في مجال الصّحافة الاستقصائيّة.
و بعد أن وجد الإعلام التقليدي نفسه في تحدّ كبير مع الإعلام الجديد، كان عليه أن يضمن استمراريته بتقديم شيء مختلف ومميّز على غرار الأشكال الصحفيّة طويلة النفس. فكان التركيز على العمل الاستقصائي الذي لا يخضع لإكراهات السرعة والآنيّة بل يحتاج إنجازه إلى فترة زمنيّة طويلة قد تمتدّ لأشهر أو حتّى سنوات. وإن كان تطور الصحافة الاستقصائية مؤشرا على هامش الحريّة التّي تتمتع بها وسائل الإعلام، إلاّ أنّ هذا الجنس الصحفي مازال يشكو من معوقات عديدة بالعراق حيث تعاني المؤسسات الإعلاميّة من معوقات ماديّة ومهنيّة وتشريعيّة. هذا ما كشفت عنه دراسة للدكتورة بشرى الحمداني حول معوقات الصحافة الاستقصائيّة بالعراق تحت عنوان ” معوقات الصحافة الاستقصائيّة العراقيّة من وجهة نظر الصحفيين العراقيين”. وقد قدمت نتائج هذا البحث خلال المؤتمر العلميّ الثالث “نحو رؤية مستقبلية لبناء إعلام مسؤول ” الذي نظمته كليّة الإعلام بالجامعة العراقيّة خلال شهر نيسان/ أفريل 2016. وشملت عيّنة البحث أشهر المؤسسات الإعلاميّة بالعراق على غرار الصحف المكتوبة “الزمان” و “المدى” و”الصباح” و “المشرق” إلى جانب موقع “شبكة نيريج للصحافة الاستقصائيّة”.
واعتمد البحث عيّنة تتكوّن من خمس صحفيين ممثلين لكلّ مؤسسة إعلاميّة أي ما يعادل مجموع 25 صحفيّا. وكشفت الدكتورة بشرى الحمداني من خلال هذه الدراسة أنّ الصحافة الاستقصائيّة في العراق تعاني من القيود التشريعيّة المكبّلة للعمل الصحفي ومن ضيق هامش الحريّة ومن غياب قوانين تحمي الصحفيين أثناء قيامهم بعملهم. إضافة إلى ذلك، أكدّ 80 % من المستجوبين أنّهم يجدون صعوبة بالغة في الوصول إلى المعلومة بسبب غياب الشفافيّة لدى المصادر الحكوميّة. لكن في الآن ذاته أكدّ 60 % من هذه العيّنة أنّهم لا يحضون بالاعتراف الكافي من قبل المؤسسات التّي تشغّلهم. وفي المقابل، أكدّ 12 % من المستجوبين وجود ثقافة العمل الاستقصائي في مؤسساتهم الإعلاميّة. من جهة أخرى، أشار أغلبيّة المستجوبين إلى غياب الإمكانيات الاقتصاديّة اللازمة للقيام بالعمل الاستقصائي بما في ذلك الأجهزة الالكترونيّة الحديثة كأدوات التسجيل السريّة. 20 % فقط هي نسبة الصحفيين الذين تتوفر لديهم الأجهزة الضرورية للقيام بعملهم الاستقصائيّ. ورغم أنّ التدريب المستمرّ يعدّ حلقة أساسيّة خلال المسار المهنيّ لأيّ صحفي، إلاّ أنّ الصحفيين الاستقصائيين العراقيين يعانون وفق هذه الدراسة من غياب التكوين الضروريّ في هذا الشكل الصحفيّ المعقّد.
فيما أكدّ 12% فقط من المستجوبين أنّهم تلقوا تكوينا سابقا في دورات تدريبيّة نظمّتها منظمات دولية من خارج العراق. ومن أهمّ المواضيع الاستقصائيّة التّي اهتمّ بها الإعلام العراقي نذكر: هدر الأموال العامّة وغياب العدالة وإخفاقات المسؤولين والأنظمة الحكوميّة والدعوة لتفعيل مبدأ المساءلة والمحاسبة. لكن كيف يمكن حماية الصحفي الاستقصائي من إغراءات المكافآت الماليّة مقابل صمته إذا كان يعاني من ضعف مرتبه الشهري؟ وإن كان هذا البحث العلمي قد اقتصر على الساحة الإعلاميّة العراقيّة فإنّ جلّ البلدان العربيّة تعاني من نفس هذه المعوقات التي تعرقل تطور الصحافة الاستقصائيّة خاصّة على مستوى الإطار التشريعيّ، إذ مازالت جلّ الدول العربيّة لا تمتلك إلى يومنا هذا إطارا قانونيّا يضمن سلامة الصحفي الاستقصائي أثناء أدائه لعمله وحقّه في النفاذ إلى المعلومة وفي الاحتفاظ بسريّة مصادره.
رابط المقال من المصدر:: https://icsfs.org/ar/article?id=22&cid=1
هذا المحتوى مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي CC BY-NC 4.0.